التَّعارض والتَّرْتِيبُ بَيْنَ الأدِلَّةِ والمُفْتي والمُسْتَفْتي والاِجْتِهَــــــادُ والتَّقْلِــــيدُ

التَّعارض

التعارضلغة:التَّقابل والتَّمانع.
واصطلاحًا:تقابل الدَّليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر.
 وأقسام التَّعارض أربعة: 
[1] أن يكون بين دليلين عامَّين1- أن يمكن الجمع بينهما بحيث يُحمل كل منهما على حالٍ لا يُناقض الآخر فيها فيجب الجمع. مثال ذلك: قولُه تعالى لنبيِّه ﷺ: ﴿ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ، وقوله: ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ، والجمعُ بينهما أن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحقِّ وهذه ثابتة للرسول ﷺ. والآية الثَّانية يراد بها هداية التوفيق للعمل، وهذه بيد الله تعالى لا يملكها الرَّسول ﷺ ولا غيره.
2 – فإن لم يمكن الجمع، فالمتأخِّر ناسخ إن علم التاريخ فيُعمل به دون الأول. مثال ذلك: قوله تعالى في الصِّيام: ﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ فهذه الآية تفيد التَّخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام، وقوله تعالى: ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ تُفيد تعيين الصيام أداءً في حق غير المريض والمسافر، وقضاءً في حقِّهما، لكنها متأخرة عن الأولى، فتكون ناسخة لها كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع الثابت في «الصحيحين» وغيرهما.
3 – فإن لم يُعلم التاريخ عُمل بالراجح إن كان هناك مرجِّح. مثال ذلك: قوله ﷺ: «من مسَّ ذكره فليتوضأ» وسئل ﷺ عن الرَّجل يمس ذكره؛ أعليه الوضوء؟ قال: «لا، إنما هو بضعة منك»، فيرجِّح الأول؛ لأنه أحوط، ولأنه أكثر طرقًا، ومصحِّحوه أكثر، ولأنه ناقل عن الأصل، ففيه زيادة علم.
4 – فإن لم يوجد مرجِّح وجب التوقف، ولا يوجد له مثال صحيح.
[2] أن يكون التَّعارض بين خاصين1 – أن يمكن الجمع بينهما فيجب الجمع. مثاله حديث جابر ﭬ في صفة حج النبي ﷺ أنَّه ﷺ صلَّى الظهر يوم النَّحر بمكة. وحديث ابن عمر ﭭ أنه ﷺ صلاها بمنى، فيجمع بينهما بأنه صلاها بمكة، ولما خرج إلى منى أعادها بِمَنْ فيها من أصحابه.
2 – فإن لم يمكن الجمع، فالثَّاني ناسخ إن علم التاريخ. مثاله: قوله تعالى: ﴿ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ، وقوله: ﴿ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ، فالثانية ناسخة للأولى على أحد الأقوال.
3 – فإن لم يمكن النسخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجِّح. مثاله: حديث ميمونة أنَّ النبي ﷺ تزوجها وهو حلال، وحديث ابن عباس أن النبي ﷺ تزوجها وهو مُحرم، فالراجح الأول لأن ميمونة صاحبة القصة فهي أدرى بها، ولأن حديثها مؤيد بحديث أبي رافع ﭬ أن النبي ﷺ تزوجها وهو حلال، قال: وكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُما.
4 – فإن لم يوجد مرجِّحٌ وجب التوقف، ولا يوجد له مثال صحيح.
[3] أن يكون التعارض بين عام وخاص فيخصَّص العام بالخاص.مثاله: قوله ﷺ: «فيما سقت السماء العُشر» وقوله: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» فيخصص الأول بالثاني، ولا تجب الزكاة إلا فيما بلغ خمسة أوسق.
[4] أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه1 – أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر فيخصص به. مثاله: قوله تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ، وقوله: ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ  فالأولى خاصة في المتوفى عنها عامة في الحامل وغيرها. والثانية خاصة في الحامل عامة في المتوفى عنها وغيرها؛ لكن دلَّ الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية، وذلك أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبيُّ ﷺ أن تتزوج، وعلى هذا فتكون عدة الحامل إلى وضع الحمل سواء كانت متوفى عنها أم غيرها.
2 – وإن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عمل بالراجح. مثال ذلك: قوله ﷺ: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» وقوله: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس». فالأول خاصٌّ في تحية المسجد عام في الوقت، والثاني خاصٌّ في الوقت عام في الصلاة، يشمل تحية المسجد وغيرها؛ لكن الرَّاجح تخصيص عموم الثاني بالأول، فتجوز تحية المسجد في الأوقات المنهي عن عموم الصلاة فيها، وإنما رجَّحنا ذلك لأن تخصيص عموم الثاني قد ثبت بغير تحية المسجد؛ كقضاء المفروضة وإعادة الجماعة؛ فضعُف عمومه.
3 – وإن لم يقم دليل ولا مرجِّح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني، وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه، والتوقُّف في الصورة التي يتعارضان فيها. لكن لا يمكن التعارُض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع، ولا النسخ، ولا الترجيح؛ لأن النصوص لا تتناقض، والرسولُ ﷺ قد بيّن وبلّغ، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره. والله أعلم

التَّرْتِيبُ بَيْنَ الأدِلَّةِ

إذا اتَّفقت الأدلة السابقة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) على حكمٍ أو انفرد أحدها من غير معارضٍ وجب إثباته.
وإن تعارضت، وأمكن الجمع وجب الجمعوإن لم يمكن الجمع عُمل بالنسخ إن تمت شروطه.
وإن لم يُمكن النسخ وجب الترجيح فيرجِّح من الكتاب والسنة:
النَّص على الظاهروالظاهر على المؤولوالمنطوق على المفهوموالمثبت على النافي.
والناقل عن الأصل على المبقي عليه؛ لأن مع الناقل زيادةُ علم.والعام المحفوظ (وهو الذي لم يخصَّص) على غير المحفوظ
وما كانت صفات القَبول فيه أكثر على ما دونهوصاحب القصة على غيره.
ويقدَّم من الإجماع: القطعي على الظني.ويقدَّم من القياس: الجلي على الخفي.

المُفْتي والمُسْتَفْتي

المفتي:هو المخبر عن حكم شرعي.
والمستفتي:هو السائل عن حكم شرعي.
شروط الفتوى: يشترط لجواز الفتوى شروطٌ، منها: 
1 – أن يكون المفتي عارفًا بالحكم يقينًا، أو ظنًّا راجحًا، وإلَّا وجب عليه التوقف.
2 – أن يتصوَّر السؤال تصورًا تامًّا؛ ليتمكن من الحكم عليه، فإنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره.
فإذا أشكل عليه معنى كلام المستفتي سأله عنه، وإن كان يحتاج إلى تفصيلٍ استفصله، أو ذكر التفصيل في الجواب
فإذا سئل عن امرئ هلك عن بنت وأخ وعمٍّ شقيق، فليسأل عن الأخ هل هو لأم أو لا؟ أو يُفَصِّلُ في الجواب، فإن كان لأمٍّ فلا شيء له، والباقي بعد فرض البنت للعم، وإن كان لغير أمٍّ فالباقي بعد فرض البنت له، ولا شيء للعم.
3 – أن يكون هادئ البال، ليتمكن من تصور المسألة وتطبيقها على الأدلة الشرعية، فلا يُفتي حال انشغال فكره بغضب، أو همٍّ، أو ملل، أو غيرها.
ويُشترط لوجوب الفتوى شروط منها: 
1 – وقوع الحادثة المسؤول عنها، فإن لم تكن واقعة لم تجب الفتوى لعدم الضرورة إلا أن يكون قصد السائل التعلُّم، فإنه لا يجوز كتم العلم، بل يُجيب عنه متى سئل بكل حال.
2 – ألا يُعلم من حال السائل أن قصده التَّعنت، أو تتبع الرخص، أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض، أو غير ذلك من المقاصد السَّيِّئة، فإن علم ذلك من حال السائل لم تجب الفتوى.
3 – ألَّا يترتب على الفتوى ما هو أكثر منها ضررًا، فإن ترتب عليها ذلك وجب الإمساك عنها؛ دفعًا لأشد المفسدتين بأخفهما.
ما يَلزم المستفتي: يلزم المستفتي أمور: 
الأول:أن يريد باستفتائه الحق والعمل به لا تتبُّع الرخص وإفحام المفتي، وغير ذلك من المقاصد السيئة.
الثاني:ألا يستفتي إلا من يعلم، أو يغلب على ظنِّه أنه أهل للفتوى.
وينبغي أن يختار أوثق المُفتين علمًا وورعًا، وقيل: يجب ذلك.
الثالث:أن يصف حالته وصفًا صادقًا دقيقًا، كقول السائل: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإذا توضأنا به عطشنا، أقنتوضأ بما البحر؟
الرابع:أن ينتبه لما يقوله المفتي بحيث لا ينصرف منه إلا وقد فهم الجواب تمامًا.

.

الاِجْتِهَــــــادُ

الاجتهادلغة:بذل الجُهد لإدراك أمر شاق.
واصطلاحًا:بذل الجهد لإدراك حكمٍ شرعي.
والمجتهد:من بذل جهده لذلك.
 شروط الاجتهاد: للاجتهاد شروط منها: 
1 – أن يَعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها.
2 – أن يعرف ما يتعلَّق بصحَّة الحديث وضعفه؛ كمعرفة الإسناد ورجاله، وغير ذلك.
3 – أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
4 – أن يعرِف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص، أو تقييد، أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك.
5 – أن يعرِف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ؛ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، ونحو ذلك؛ ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات.
6 – أن يكون عنده قدرة يتمكَّن بها من استنباط الأحكام من أدلتها.
والاجتهاد قد يتجزأ فيكون في بابٍ واحدٍ من أبواب العلم، أو في مسألة من مسائله.
 ما يلزم المجتهد: 
يلزم المجتهدُ أن يبذل جهده في معرفة الحقِّ، ثم يحكم بما ظهر له فإن أصاب فله أجران:أجرٌ على اجتهادهلأن في إصابة الحق إظهارًا له وعملًا به، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد، والخطأ مغفور له
وأجر على إصابة الحق
لقوله ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر». وإن لم يظهر له الحُكم وجب عليه التوقف، وجاز التَّقليد حينئذٍ للضَّرورة.

التَّقْلِــــيدُ

التقليدلغة: وضع الشيء في العنق محيطًا به؛ كالقلادة.
واصطلاحًا: اتباع من ليس قوله حجة.
فخرج بقولنا: (من ليس قوله حجة)؛ اتباع النبي ﷺ، واتباع أهل الإجماع، واتباع الصحابي، إذا قلنا: إنّ قوله حجة، فلا يسمَّى اتباع شيء من ذلك تقليدًا؛ لأنه اتباع للحجة، لكن قد يسمَّى تقليدًا على وجه المجاز والتوسُّع.
مواضع التقليد: يكون التقليد في موضعين:
الأول: أن يكون المقلِّد عاميًّا لا يستطيع معرفة الحكم بنفسه ففرضه التقليد؛ لقوله تعالى: ﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ، ويقلِّد أفضل من يجده علمًا وورعًا، فإن تساوى عنده اثنان خيَّر بينهما.
الثاني: أن يقع للمجتهد حادثة تقتضي الفورية، ولا يتمكَّن من النظر فيها فيجوز له التقليد حينئذ.
واشترط بعضهم لجواز التقليد ألا تكون المسألة من أصول الدِّين التي يجب اعتقادها؛ لأن العقائد يجب الجزم فيها، والتَّقليد إنما يفيد الظن فقط. والرَّاجح أن ذلك ليس بشرط؛ لعموم قوله تعالى: ﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ، والآية في سياق إثبات الرسالة، وهو من أصول الدِّين، ولأن العامي لا يتمكن من معرفة الحق بأدلته، فإذا تعذَّر عليه معرفة الحق بنفسه لم يبق إلا التقليد؛ لقوله تعالى: ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
أنواع التقليد: التقليد نوعان: عام وخاص. 
[1] فالعامأن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ برُخصه، وعزائمه في جميع أمور دينه.
وقد اختلف العلماء فيهفمنهم من حكى وجوبه؛ لتعذر الاجتهاد في المتأخرين.
ومنهم من حكى تحريمه؛ لما فيه من الالتزام المطلق لاتباع غير النبي ﷺ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن في القول بوجوب طاعة غير النبي ﷺ في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه. وقال: من التزم مذهبًا معينًا، ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ولا عذر شرعي يقتضي حل ما فعله، فهو متبِّع لهواه فاعل للمحرم بغير عذر شرعي، وهذا مُنكر، وأما إذا تبين له ما يوجِب رُجْحان قول على قول إما بالأدلة المفصّلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد الرَّجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر، وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز؛ بل يجب، وقد نصَّ الإمام أحمد على ذلك.
[2] والخاصأن يأخذ بقول معين في قضية معينة، فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء عجز عجزًا حقيقيًّا، أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة.
فتوى المقلِّد: 
قال الله تعالى: ﴿ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ وأهل الذكر هم أهل العلم، والمقلد ليس من أهل العلم المتبوعين، وإنما هو تابعٌ لغيره.
قال أبو عمر بن عبد البر وغيرُه: أجمع الناسُ على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم، وأنَّ العلم معرفة الحق بدليله. قال ابن القيم: وهذا كما قال أبو عمر فإنَّ الناس لا يختلفون في أنَّ العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد.
ثم حكى ابن القيم بعد ذلك في جواز الفتوى بالتقليد ثلاثة أقوال: 
أحدها:لا تجوز الفتوى بالتقليد لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب وجمهور الشافعية.
الثاني:أن ذلك جائز فيما يتعلَّق بنفسه، ولا يجوز أن يقلِّد فيما يفتي به غيره.
الثالث:أن ذلك جائزٌ عند الحاجة، وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال وعليه العمل. انتهى كلامه.
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه المذكرة الوجيزة، نسأل الله أن يلهمنا الرشد في القول والعمل، وأن يكلِّل أعمالنا بالنجاح، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وآله.
Scroll to Top