النَّــسْـــخ والأَخْبَـــــــارُ والإِجْمَـــــــــاعُ والْـقِـــيَـاسُ

النَّــسْـــخ

النسخلغة: الإزالة والنَّقل. 
واصطلاحًا: رفْع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليلٍ من الكتاب والسُّنة.فالمراد بقولنارفع حكمأي: تغييره من إيجاب إلى إباحة، أو من إباحة إلى تحريم مثلًا. فخرج بذلك تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع، مثل أن يرتفع وجوب الزَّكاة لنقص النصاب، أو وجوب الصلاة لوجود الحيض؛ فلا يسمَّى ذلك نسخًا.
أو لفظهلفظ الدَّليل الشرعي؛ لأن النسخ إما أن يكون للحكم دون اللفظ أو بالعكس أو لهما جميعًا؛ كما سيأتي.
وخرج بقولنا: (بدليلٍ من الكتاب والسنة)؛ ما عداهما من الأدلَّة كالإجماع والقياس فلا يُنسخ بهما.
والنسخ جائزٌ عقلًا وواقعٌ شرعًا. 
أما جوازه عقلًا:فلأن الله بيده الأمر، وله الحكم؛ لأنه الرب المالك، فله أن يشرِّع لعباده ما تقتضيه حكمته ورحمته، وهل يمنع العقل أن يأمر المالكُ مملوكَه بما أراد؟
ثم إن مقتضى حكمة الله ورحمته بعباده أن يشرِّع لهم ما يعلم تعالى أن فيه قيام مصالح دينهم ودنياهم، والمصالح تختلف بحسب الأحوال والأزمان، فقد يكون الحُكم في وقت أو حال أصلح للعباد، ويكون غيرُه في وقت أو حال أخرى أصلح، والله عليمٌ حكيم.
وأما وقوعه شرعًا فلأدلة منها:﴿ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾.
﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾، ﴿ﭫ ﭬ﴾ فإن هذا نصٌّ في تغيير الحكم السابق.
قوله ﷺ: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» فهٰذا نص في نسخ النّهي عن زيارة القبور.
ما يمتنع نسخه:يمتنع النسخ فيما يأتي: 
[1] الأخبارولأن نسخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذبًا، والكذب مستحيل في أخبار الله ورسوله.
اللّٰهمَّ إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر، فلا يمتنع نسخه؛ كقوله تعالى: ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ الآية، فإن هذا خبر معناه الأمر، ولذا جاء نسخه في الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﴾.
[2] الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكانكالتوحيد، وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق؛ من الصدق والعفاف، والكرم والشجاعة، ونحو ذلك؛ فلا يمكن نسخ الأمر بها.إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم.
وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان؛ كالشرك والكفر ومساويء الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك.
شروط النسخ:يُشترط للنسخ فيما يمكن نسخه شروط منها:
[1] تعذُّر الجمع بين الدليلينفإن أمكن الجمع فلا نسخ لإمكان العمل بكل منهما.
[2] العلم بتأخُّر الناسخويعلم ذلكإما بالنَّصِّكقوله ﷺ: «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة».
أو بخبر الصحابيقول عائشة ڤ: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن، ثم نسخن بخمسٍ معلومات».
أو بالتاريخقوله: ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾ الآية؛ و﴿ﮜ﴾ يدل على تأخر هذا الحكم. وكذا لو ذكر أن النبي ﷺ حكم بشيء قبل الهجرة، ثم حكم بعدها بما يخالفه، فالثاني ناسخ.
[3] ثبوت الناسخ،واشترط الجمهور: أن يكون أقوى من المنسوخ أو مماثلًا له؛ فلا ينسخ المتواتر عندهم بالآحاد، وإن كان ثابتًا.
والأرجح أنه لا يُشترط أن يكون الناسخ أقوى أو مماثلًا؛ لأن محل النسخ الحكم، ولا يشترط في ثبوته التَّواتر.
 أقسام النَّسخ 
باعتبار النص المنسوخ[1] ما نسخ حكمه وبقي لفظهوهذا هو الكثير في القرآن. مثاله: آيتا المصابرة، وهما قوله تعالى: ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﴾ الآية، نسخ حكمها بقوله تعالى: ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
حكمتهبقاء ثواب التلاوة، وتذكير الأمة بحكمة النسخ
[2] ما نسخ لفظه وبقي حكمهكآية الرجم، فقد ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس ﭭ أن عمر ﭬ قال: كان فيما أنزل الله آية الرَّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنا، إذا أحصن من الرجال والنساء، وقامت البينة، أو كان الحبَل، أو الاعتراف.
حكمتهاختبار الأمَّة في العمل بما لا يجدون لفظه في القرآن، وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى، عكس حال اليهود الذين حاولوا كتْم نص الرجم في التوراة.
[3] ما نُسخ حكمه ولفظهكنسخ عشر الرضعات السابق في حديث عائشة ڤ.
باعتبار الناسخ[1] نسخ القرآن بالقرآنومثاله آيتا المصابرة.
[2] نسخ القرآن بالسنّةولم أجد له مثالًا سليمًا.
[3] نسخ السنة بالقرآنومثاله نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة، باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﴾
[4] نسخ السنة بالسنةومثاله قوله ﷺ: «كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكرًا».
حكمة النسخ:للنسخ حِكَمٌ متعددة منها: 
1 – مراعاة مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم. 
2 – التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال.
3 – اختبار المكلَّفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك.
4 – اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف، ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل.

الأَخْبَـــــــارُ

تعريف الخبر:لغة: النبأ. 
والمراد به هنا: ما أضيف إلى النبيِّ ﷺ من قولٍ، أو فعل، أو تقرير، أو وصف.
قولٍوقد سبق الكلامُ على أحكام كثيرٍ من القول.
فعل[1] ما فعله بمقتضى الجبلّةكالأكل والشرب والنوم، فلا حكم له في ذاته، ولكن قد يكون مأمورًا به أو منهيًّا عنه لسبب، وقد يكون له صفة مطلوبة كالأكل باليمين، أو منهي عنها كالأكل بالشمال.
[2] ما فعله بحسب العادةكصفة اللباس فمباح في حدِّ ذاته، وقد يكون مأمورًا به أو منهيًّا عنه لسبب
[3] ما فعله على وجه الخصوصيةفيكون مختصًّا به، كالوصال في الصوم والنكاح بالهبة. ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليل؛ لأن الأصل التأسي به.
[4] ما فعله تعبُّدًا فواجب عليه حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليهثم يكون مندوبًا في حقِّه وحقنا على أصح الأقوال، وذلك لأن فعله تعبدًا يدل على مشروعيته، والأصل عدم العقاب على الترك فيكون مشروعًا لا عقاب في تركه، وهذا حقيقةُ المندوب.  مثال ذلك: حديث عائشة أنها سئلت: بأي شيء كان النبي ﷺ يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك، فليس في السِّواك عند دخول البيت إلا مجرد الفعل، فيكون مندوبًا. ومثال آخر: كان النبي ﷺ يخلِّل لحيته في الوضوء. فتخليل اللحية ليس داخلًا في غسل الوجه، حتى يكون بيانًا لمُجمل، وإنما هو فعل مجرّد فيكون مندوبًا.
[5] ما فعله بيانًا لمجمل من نصوص الكتاب أو السنةفواجب عليه حتى يحصل البيان لوجوب التبليغ عليه، ثم يكون له حكم ذلك النَّص المبين في حقه وحقنا، فإن كان واجبًا كان ذلك الفعل واجبًا، وإن كان مندوبًا كان ذلك الفعل مندوبًا. مثال الواجب: أفعال الصَّلاة الواجبة التي فعلها النبي ﷺ بيانًا لمُجمل قوله تعالى: ﴿ﮛ  ﮜ﴾. ومثال المندوب: صلاته ﷺ ركعتين خلف المقام بعد أن فرغ من الطواف بيانًا لقوله تعالى: ﴿ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ   ﯧﯨ﴾ حيث تقدَّم ﷺ إلى مقام إبراهيم وهو يتلو هذه الآية، والركعتان خلف المقام سنَّة.
تقريروأما تقريره ﷺ على الشيء فهو دليل على جوازه على الوجه الذي أقره قولًا كان أم فعلًا.
مثال إقراراه على القول: إقراره الجارية التي سألها: «أين الله؟» قالت: في السماء.
ومثال إقراراه على الفعل: إقراره صاحب السَّرية الذي كان يقرأ لأصحابه، فيختم بـ ﴿ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ﴾، فقال ﷺ: «سلوه لأيِّ شيء كان يصنع ذلك»، فسألوه فقال: لأنها صفة الرَّحمٰن وأنا أحبُّ أن أقرأها. فقال ﷺ: «أخبروه أن الله يحبُّه». ومثال آخر: إقراره الحَبَشة يلعبون في المسجد؛ من أجل التأليف على الإسلام
فأما ما وقع في عهده ولم يعلم به فإنه لا يُنسب إليه، ولكنَّه حجةٌ لإقرار الله له، ولذلك استدل الصحابة على جواز العزل بإقرار الله لهم عليه، قال جابر ﭬ: كنَّا نعزل والقرآن ينزل، متَّفق عليه، زاد مسلم: قال سفيان: ولو كان شيئًا يُنهى عنه لنهانا عنه القرآن. ويدلُّ على أن إقرار الله حجّة، أن الأفعال المنكرة التي كان المنافقون يخفونها يبيِّنها الله تعالى وينكرها عليهم، فدلَّ على أن ما سكت الله عنه فهو جائز.
وصفومثال ما أضيف إلى النبي ﷺ من وصف في خُلُقِهِ: كان النبي ﷺ أجود الناس وأشجع الناس.
ومثال ما أضيف إلى النبي ﷺ من وصف في خِلْقَتِهِ: كان النبي ﷺ ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير.
أقسام الخبر باعتبار من يضاف إليه: ينقسم الخبر باعتبار من يضاف إليه إلى ثلاثة أقسام:
[1] فالمرفوعما أضيف إلى النبي ﷺ حقيقة أو حكمًا. 
فالمرفوع حقيقة: قول النبي ﷺ وفعله وإقراره.
والمرفوع حكمًا: ما أضيف إلى سنَّته، أو عهده، أو نحو ذلك، مما لا يدل على مباشرته إياه. ومنه قول الصحابي: أمِرنا أو نهينا، أو نحوهما؛ كقول ابن عباس ﭭ: أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض. وقول أم عطية: نُهينا عن اتباع الجنائز، ولم يُعزم علينا.
[2] والموقوفما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع 
وهو حجة على القول الرَّاجح، إلا أن يخالف نصًّا أو قول صحابيٍّ آخر، فإن خالف نصًّا أخذ بالنص، وإن خالف قول صحابي آخر أخذ بالرَّاجح منهما.  والصَّحابي: من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنًا به ومات على ذلك.
[3] والمقطوعما أضيف إلى التابعي فمن بعده. 
والتابعي: من اجتمع بالصحابي مؤمنًا بالرسول ﷺ، ومات على ذلك.
أقسام الخبر باعتبار طرقه: ينقسم الخبر باعتبار طرقه إلى: متواتر وآحاد.
فالمتواترما رواه جماعة كثيرون، يستحيل في العادة أن يتواطؤوا على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس.
مثاله: قوله ﷺ: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
والآحاد:ما سوى المتواتر.وهو من حيث الرتبة ثلاثة أقسام:
[1] فالصحيح:ما نقله عدل تام الضبط بسند متصل، وخلا من الشذوذ والعلة القادحة.
[2] والحسن:خفيف الضبط بسند متصل، وخلا من الشذوذ والعلة القادحة.
ويصل إلى درجة الصحيح إذا تعدَّدت طرقه ويسمى: صحيحًا لغيره.
[3] والضعيف:ما خلا من شرط الصَّحيح والحسن.
ويصل إلى درجة الحسن إذا تعدَّت طرقة، على وجه يَجْبُر بعضها بعضًا، ويسمَّى: حسنًا لغيره.
صِيَغ الأداء:للحديث تحمّل وأداء. 
[1] فالتحمل:أخذ الحديث عن الغير.
[2] والأداء:إبلاغ الحديث إلى الغيروللأداء صيغ منها:
1 – حدثني: لمن قرأ عليه الشيخ. 
2 – أخبرني: لمن قرأ عليه الشيخ، أو قرأ هو على الشيخ.
3 – أخبرني إجازة، أو أجاز لي: لمن روى بالإجازة دون القراءة. والإجازة: إذنه للتلميذ أن يروي عنه ما رواه، وإن لم يكن بطريق القراءة.
4 – العنعنة وهي: رواية الحديث بلفظ (عن). وحكمها الاتِّصال إلا من معروفٍ بالتَّدليس، فلا يُحكم فيها بالاتصال إلا أن يصرح بالتحديث.
هذا وللبحث في الحديث ورواته أنواع كثيرة في علم المصطلح، وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى.

الإِجْمَـــــــــاعُ

الإجماعلغة: العزم والاتفاق 
واصطلاحًا: اتِّفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي على حكمٍ شرعي.
فخرج بقولناتفاقوجود خلاف ولو من واحدٍ، فلا ينعقد معه الإجماع.
مجتهديالعوام والمقلِّدون، فلا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم
هذه الأمَّةإجماع غيرها فلا يعتبر.
بعد النبيِّ اتِّفاقهم في عهد النبي فلا يعتبر إجماعًا من حيث كونه دليلًا؛ لأن الدليل حصل بسنّة النبي من قول أو فعل أو تقرير، ولذلك إذا قال الصَّحابي: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون كذا على عهد النبيِّ ؛ كان مرفوعًا حكمًا، لا نقلًا للإجماع.
على حكم شرعياتفاقهم على حكم عقلي، أو عادي، فلا مدخل له هنا، إذ البحث في الإجماع كدليل من أدلة الشرع.
والإجماع حجة لأدلة منها 
الدليل الأول:﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾؛ فقوله: ﴿ﭯ ﭰ ﭱ﴾، يشمل الشهادة على أعمالهم وعلى أحكام أعمالهم، والشهيد قوله مقبولٌ.
الدليل الثاني:﴿ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ دل على أن ما اتفقوا عليه حق.
الدليل الثالث:قوله : «لا تجتمع أمتي على ضلالة».
الدليل الرابع:أن نقول: إجماع الأمة على شيء، إما أن يكون حقًّا، وإما أن يكون باطلًا، فإن كان حقًّا فهو حجة، وإن كان باطلًا فكيف يجوز أن تجمع هذه الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمر باطل لا يرضى به الله؟ هذا من أكبر المحال.
أنواع الإجماع: الإجماع نوعان: قطعي وظنِّي. 
[1] فالقطعيما يُعلم وقوعه من الأمة بالضرورة
كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس وتحريم الزنى، وهذا النوع لا أحد ينكر ثبوته ولا كونه حجة، ويكفر مخالفه إذا كان ممَّن لا يجهله.
[2] والظنِّيما لا يعلم إلا بالتتبع والاستقراء. وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته 
وأرجح الأقوال في ذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في «العقيدة الواسطية»: (والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة). اهـ.
واعلم أن الأمة لا يمكن أن تجمع على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ، فإنها لا تجمع إلا على حق، وإذا رأيت إجماعًا تظنه مخالفًا لذلك، فانظر فإما أن يكون الدليل غير صحيح، أو غير صريح، أو منسوخًا، أو في المسألة خلاف لم تعلمه.
شروط الإجماع: للإجماع شروط منها 
[1] أن يثبت بطريق صحيح، بأن يكون إما مشهورًا بين العلماء أو ناقله ثقة واسع الاطِّلاع.
[2] ألا يسبقه خلاف مستقر، فإن سبقه ذلك فلا إجماع، لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها.
فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق، وإنما يمنع من حدوث خلاف، هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه، وقيل: لا يشترط ذلك؛ فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال السابقة، ويكون حجة على من بعده.
ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المُجمعين فينعقد الإجماع من أهله بمجرد اتفاقهم، ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد؛ لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم فما الذي يرفعه؟
وإذا قال بعض المجتهدين قولًا أو فعل فعلًا، واشتهر ذلك بين أهل الاجتهاد، ولم ينكروه مع قدرتهم على الإنكار، فقيل: يكون إجماعًا، وقيل: يكون حجة لا إجماعًا، وقيل: ليس بإجماع ولا حجة، وقيل: إن انقرضوا قبل الإنكار فهو إجماع؛ لأن استمرار سكوتهم إلى الانقراض مع قدرتهم على الإنكار دليلٌ على موافقتهم، وهذا أقرب الأقوال.

الْـقِـــيَـاسُ

القياسلغة:التقدير والمساواة.
واصطلاحًا:تسوية فرعٍ بأصل في حكم لعلَّة جامعة بينهما.
 أركان القياس الأربعة 
[1] فالفرع:المَقيس. 
[2] والأصل:المقيس عليه.
[3] والحكم:ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوب، أو تحريم، أو صحة، أو فساد، أو غيرها.
[4] والعلّة:المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل. 
القياس أحد الأدلة التي تثبت بها الأحكام الشرعيةدل على اعتباره دليلًا شرعيًّا: الكتاب والسنة وأقوال الصحابة
[1] فمن أدلة الكتاب﴿ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ  والميزان ما تُوزن به الأمور ويُقايس به بينها.
﴿ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ﴾، ﴿ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ، فشبَّه الله تعالى إعادة الخلق بابتدائه، وشبَّه إحياء الأموات بإحياء الأرض، وهٰذا هو القياس.
[2] ومن أدلة السنةقوله ﷺ لمن سألته عن الصيام عن أمها بعد موتها: «أرأيتِ لو كان على أمك دين فقضيته؛ أكان يؤدي ذلك عنها»؟ قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك».
أن رجلًا أتى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله؛ ولد لي غلام أسود؛ فقال: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟» قال: حُمر، قال: «هل فيها من أورق؟» قال: نعم، قال: «فأنَّى ذلك؟» قال: لعله نزعه عرق، قال: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق».
وهكذا جميعُ الأمثال الواردة في الكتاب والسنة دليلٌ على القياس لما فيها من اعتبار الشيء بنظيره.
[3] ومن أقوال الصحابةما جاء عن أمير المؤمنين عمر في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء قال: ثم الفهم الفهم فيما أدلى عليك، مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق. قال ابن القيم: وهذا كتاب جليل تلقَّاه العلماء بالقبول.
وحكى المُزَنِي أن الفقهاء من عصر الصحابة إلى يومه أجمعوا على أن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، واستعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام.
شروط القياس: للقياس شروط منها: 
[1] ألا يصادم دليلًا أقوى منهفلا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع أو أقوال الصحابة، إذا قلنا: قول الصحابي حجة، ويسمى القياس المصادم لما ذُكر: «فاسد الاعتبار».
مثاله: أن يقال: يصحُّ أن تزوِّج المرأة الرشيدة نفسها بغير ولي قياسًا على صحة بيعها مالها بغير ولي. فهذا قياس فاسدُ الاعتبار لمصادمته النص، وهو قوله ﷺ: «لا نِكاح إلا بولي».
[2] أن يكون حكم الأصل ثابتًا بنصٍّ أو إجماعفإن كان ثابتًا بقياس لم يصح القياس عليه، وإنما يقاس على الأصل الأول؛ لأن الرجوع إليه أولى، ولأن قياس الفرع عليه الذي جعل أصلًا قد يكون غير صحيح، ولأن القياس على الفرع ثم الفرع على الأصل تطويل بلا فائدة.
مثال ذلك: أن يقال: يجري الرِّبا في الذُّرة قياسًا على الرز، ويجري في الرز قياسًا على البُرِّ، فالقياس هكذا غير صحيح، ولكن يقال: يجري الرِّبا في الذرة قياسًا على البر؛ ليقاس على أصل ثابت بنص.
[3] أن يكون لحكم الأصل علة معلومةليمكن الجمع بين الأصل والفرع فيها، فإن كان حكم الأصل تعبديًّا محضًا لم يصح القياس عليه.
مثال ذلك: أن يقال: لحم النعامة ينقض الوضوء قياسًا على لحم البعير لمشابهتها له، فيقال: هذا القياس غير صحيح لأن حكم الأصل ليس له علة معلومة، وإنما هو تعبديٌّ محض على المشهور.
[4] أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم يُعلم من قواعد الشرع اعتبارهكالإسكار في الخمر. فإن كان المعنى وصفًا طرديًّا لا مناسبةَ فيه لم يصح التعليل به؛ كالسَّواد والبياض مثلًا.
مثال ذلك: حديث ابن عباس ﭭ أنَّ بريرة خيرت على زوجها حين عُتقت قال: وكان زوجها عبدًا أسود، فقوله: (أسود)؛ وصف طرديٌّ لا مناسبة فيه للحكم، ولذلك يثبت الخيار للأَمَة إذا عُتقت تحت عبد وإن كان أبيض، ولا يثبت لها إذا عُتقت تحت حر، وإن كان أسود.
[5] أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصلكالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف، فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس.
مثال ذلك: أن يقال العلة في تحريم الربا في البر كونه مَكِيلًا، ثم يقال: يجري الرِّبا في التفاح قياسًا على البر، فهذا القياس غير صحيح، لأنَّ العلة غير موجودة في الفرع، إذ التفاح غير مكيل.
أقسام القياس: ينقسم القياس إلى جليّ وخفيٍّ. 
[1] فالجليما ثبتت علتهبنصمثاله: قياس المنع من الاستجمار بالدم النجس الجاف على المنع من الاستجمار بالرّوثة، فإنَّ علة حكم الأصل ثابتة بالنص حيث أتى ابن مسعود ﭬ إلى النبي ﷺ بحجرين وروثة؛ ليستنجي بهنَّ، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: «هذا ركس» والركس النجس.
أو إجماعمثاله: نهي النبي ﷺ أن يقضي القاضي وهو غضبان، فقياس منع الحاقن من القضاء على منع الغضبان منه من القياس الجليّ، لثبوت علة الأصل بالإجماع وهي تشويش الفكر وانشغال القلب.
أو كان مقطوعًا فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.مثاله: قياس تحريم إتلاف مال اليتيم باللّبس على تحريم إتلافه بالأكل للقطع بنفي الفارق بينهما.
[2] والخفيما ثبتت علته باستنباط، ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع.
مثاله: قياس الأشنان على البر في تحريم الربا بجامع الكيل، فإن التعليل بالكيل لم يثبت بنصٍّ ولا إجماع، ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، إذ من الجائز أن يفرِّق بينهما بأن البر مطعوم بخلاف الأشنان.
قياس الشَّبَه:وهو أن يتردد فرع بين أصلين مختلفي الحكم، وفيه شَبَه بكل منهما، فيلحق بأكثرهما شبهًا به.
مثال ذلك: العبد هل يملك بالتَّمليك قياسًا على الحر أو لا يملك قياسًا على البهيمة؟ إذا نظرنا إلى هذين الأصلين الحر والبهيمة وجدنا أن العبد متردد بينهما، فمن حيث أنه إنسان عاقل يثاب ويعاقب وينكح ويطلق؛ يشبه الحر، ومن حيث أنه يباع ويرهن ويوقف ويوهب ويورث ولا يودع ويضمن بالقيمة ويتصرف فيه؛ يُشبه البهيمة، وقد وجدنا أنه من حيث التصرف المالي أكثر شبهًا بالبهيمة فيُلحق بها.
وهذا القسم من القياس ضعيف إذ ليس بينه وبين الأصل علّة مناسبة سوى أنه يُشبهه في أكثر الأحكام مع أنه ينازعه أصلٌ آخر.
قياس العكس:وهو: إثبات نقيضِ حكم الأصل للفرع لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه.
ومثَّلوا لذلك بقوله ﷺ: «وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله؛ أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر». فأثبت النبيُّ ﷺ للفرع وهو الوطء الحلال نقيض حكم الأصل وهو الوطء الحرام لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه، أثبت للفرع أجرًا لأنَّه وطء حلال، كما أن في الأصل وزرًا لأنه وطء حرام.
Scroll to Top